فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع إليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغ ذلك دفع إليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام: «مروهم بالصلاة لسبع» فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع إليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشدًا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال إليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا} ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ} ويجب أن يكون المراد: فإن آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال إليه، فإذا كان هذا الشرط مفقودًا بعد خمس وعشرين سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال إليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: إنه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والتنكير في قوله: {رشدًا} تنكير النوعية، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات، فرشد زيد غير رشد عمرو، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة، وفي الدعوة إلى الحقّ، قال تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} [هود: 97]، وقال عن قوم شعيب {إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87].
وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير (رشدًا) دليلًا لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ، بدعوى أنّ الله شرط رشدًا مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة، ولم يشترط الرشّد كلّه.
وهذا ضعف في العربية، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها. اهـ.

.قال الفخر:

إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [النساء: 5] والقياس الجلي أيضا يدل عليه، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع إليه ماله، وإنما لم يدفع إليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصدًا ليوم حاجته، وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء، فوجب اعتباره والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال صاحب الكشاف: الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد. اهـ.
قال الفخر:
المراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل. اهـ.

.قال ابن عطية:

والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك، لأن التوقيف بالبلوغ جاء بـ {إذا} والمشروط جاء بـ {إن} التي هي قاعدة حروف الشرط، و{إذا} ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر، وقال: فعلوا ذلك مضطرين، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهرًا أو مضمرًا، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر، ولا تقول: إن احمر البسر، وقال الحسن وقتادة: الرشد في العقل والدين، وقال ابن عباس: بل في العقل وتدبير المال لا غير، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا، والرواية الأخرى: أنه في العقل والدين مروية عن مالك، وقالت فرقة: دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك، وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبري المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى: لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال. اهـ.

.قال الفخر:

{وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولا تأكلوها إسرافًا} عطف على {وابتلوا اليتامى} باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله: {فإن آنستم منهم رشدًا} إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم: وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانًا من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّعِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات.
وانتصب {إسرافًا} على الحال: أو على النيابة عن المفعول المطلق، وأيّا ما كان، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك، بل المقصود تشويه حالة الأكل.
والبدار مصدر بادره، وهو مفاعلة من البَدْر، وهو العجلة إلى الشيء، بَدَره عجله، وبادره عاجله، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه، فيذهب يدّعي عليه، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية.
بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال ولِيّه بالمعروف.
يقال: عفّ الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك.
والاستعفاف عن الشيء تركه.
ومنه قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور: 33] والعِفّة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله.
روى أبو داود من حديث حسين المعلّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم. قال: فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مُباذِرٍ ولا مُتأَثِّل». اهـ.

.قال الفخر:

اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ وفي هذه المسألة أقوال:
أحدهما: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:
الأول: أن قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة.
وثانيها: أنه قال: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة.
وثالثها: قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} فائدة، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
ورابعها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: إن تحت حجري يتيما أآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك،.
وخامسها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم أما بعد: فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبدالله ابن مسعود، وربعها لعثمان، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم: من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.